الصراعات في الشرق الأوسط- حيرة المواطن وأهداف خفية
المؤلف: محمد مفتي09.25.2025

في خضم عالم يعج بالنزاعات المتصاعدة، والتي قد تتفاقم لتصل إلى حروب دامية، يشعر الفرد في البلدان المنخرطة بالصراعات بحيرة شديدة، إذ يجهل الأسباب الحقيقية وراء اندلاعها وتوقعات نهايتها. على مر عقود طويلة، كانت منطقة الشرق الأوسط مسرحاً للنزاعات العسكرية المدمرة، التي أهلكت الزرع والضرع، واستنزفت الموارد الاقتصادية والبشرية على حد سواء. ففي أتون الحروب، يصبح المال أقل الأثمان مقارنة بالخسائر الإنسانية الفادحة، التي تتجاوز في كثير من الأحيان مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين، فضلاً عن تدمير مدن وقرى بأكملها وتحويلها إلى أطلال.
في أغلب الأحيان، يعجز أحد أطراف الصراع المسلح عن تحقيق النصر الحاسم، فيلجأ إلى ما يعرف بحرب الإبادة، من خلال تدمير المدن والقرى وتسويتها بالأرض فوق رؤوس المدنيين الأبرياء، بهدف إلحاق الهزيمة النفسية بالخصم وإجباره على الرضوخ لشروطه المجحفة، كما حدث في مدينتي هيروشيما وناجازاكي إبان الحرب العالمية الثانية، وكما وقع في قرية حلبجة التي أبيدت بالأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً في حرب الخليج الأولى.
عندما يسعى المواطن إلى استجلاء حقيقة الأحداث الدائرة من حوله، من خلال متابعة تصريحات مسؤولي الأطراف المتنازعة، وتحليل دوافعهم ورؤيتهم للصراع، يصطدم بتعارض صارخ بين التصريحات المنسوبة لكل طرف، مما يفتح الباب واسعاً أمام تحليلات متباينة ومتضاربة، ويزيد من حيرة المواطن ويفقده القدرة على التمييز بين الحقائق والأباطيل، وبين ما ينبغي تصديقه وما يجب رفضه.
ولعل أخطر ما في الحروب هو المفاجآت غير المتوقعة، فغالباً ما تأخذ الحروب عقب اندلاعها مسارات مغايرة لما كان مخططاً لها، إذ أن تعقيد الأحداث قد يدفع أطرافاً جديدة - لم تكن طرفاً أساسياً في الصراع - إلى الانخراط في دائرة النزاع، ودخول أي طرف في الصراع يستدعي معه تحالفاته الدولية لحماية مصالحه الاستراتيجية، فكل حليف استراتيجي يحرص على الحفاظ على مناطق نفوذه الجغرافية. فالولايات المتحدة لطالما اعتبرت دول الخليج دولاً مستقرة ومتوازنة سياسياً ويمكن التنبؤ بتحركاتها، بالإضافة إلى كونها مصدراً حيوياً للطاقة على مستوى العالم، وترتبط بشراكات اقتصادية متينة مع دول الخليج العربي، لذا يضع جميع الرؤساء الأمريكيين أمن الخليج على رأس قائمة أولوياتهم.
فيما يتعلق بالصراعات السياسية المعقدة، فإن الأسباب الظاهرة لأي صراع قد تختلف جذرياً عما يختبئ في أعماق بحر السياسة المضطرب، ولا تستطيع أي دولة - خاصة بعد اندلاع الحرب - أن تتحلى بالشفافية الكاملة لإطلاع العالم على حقيقة ما يجري على أرض المعركة، فدهاليز السياسة متشعبة ومعقدة، وقد لا يحيط بكامل خيوطها إلا قلة قليلة من الساسة المخضرمين.
عقب اندلاع أحداث السابع من أكتوبر عام 2023، أعلنت إسرائيل أن الهدف من حربها في قطاع غزة هو تحرير الأسرى من قبضة حماس، وهو الهدف الذي سرعان ما تكشف زيفه، فما إن تبدأ مفاوضات استعادة الأسرى حتى تعمد إسرائيل إلى عرقلتها ووضع العراقيل المتتالية أمامها. وبإمكان المراقب للأحداث أن يستنتج بوضوح الأهداف الإسرائيلية الخفية التي تتجاوز ما تم الإعلان عنه، فوجود اتفاقية أوسلو (التي تعتبر كابوساً بكل المقاييس الإسرائيلية لزعماء اليمين المتطرف) كان الهدف الحقيقي وراء صعود حزب الليكود إلى السلطة، إذ كان يهدف إلى تقويضها بكل السبل الممكنة. لذلك، فإن المتتبع لحرب السابع من أكتوبر يلاحظ أن إسرائيل كانت تقصف غزة والضفة الغربية في آن واحد، مما يؤكد أن إسرائيل كانت تضمر النية للقضاء على السلطة الفلسطينية في الضفة وتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
قد يتساءل المتابع للأحداث عن الأسباب الكامنة وراء تدخل إسرائيل في المواجهة مع سوريا، ولا سيما بعد تفكك نظام الأسد. فالإدارة السورية الجديدة لديها من التحديات الداخلية ما يكفيها ويثنيها عن الانخراط في أي صراع خارجي. ولكن عندما تقوم إسرائيل بتدمير القدرات العسكرية لدول عربية، فإنها بذلك تقدم خدمة جليلة لبعض الدول الغربية المستفيدة. فالدول التي دمرت قدراتها العسكرية تحتاج إلى بناء ترسانة أسلحة جديدة لتعويض ما خسرته على يد الآلة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما سيترجم إلى صفقات عسكرية ضخمة من شأنها تنشيط الدورة الاقتصادية لمؤسسات الصناعات العسكرية الغربية. وهكذا يستمر الوضع على نفس المنوال في دول الشرق الأوسط، حيث تشتري دوله السلاح ثم تدمره إسرائيل لتعود وتشتريه من جديد في حلقة مفرغة لا تنتهي.
لا شك أن إسرائيل - من خلال قصفها للقواعد العسكرية السورية المستمر - قدمت للولايات المتحدة خدمة مضاعفة، فالولايات المتحدة لطالما سعت للتخلص من النفوذ الروسي المتزايد في منطقة الشرق الأوسط، وبإضعاف نظام الأسد تلاقت المصالح الإسرائيلية والأمريكية، وتم تقويض الوجود الروسي (السوفييتي سابقاً)، الذي لطالما أقض مضاجع الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن الماضي.